الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)
وكان يقال لزفر إنه من كندة.ثم إن عبد الملك لما أراد المسير إلى مصعب سار إلى قرقيسيا فحصر زفر فيها ونصب عليها المجانيق، فأمر زفر أن ينادي في عسكر عبد الملك: لم نصبتم علينا المجانيق؟ قال: لنثلم ثلمةً نقاتلكم عليها. فقال زفر: قولوا لهم فإنا لا نقاتلكم من وراء الحيطان ولكنا نخرج إليكم. وثلمت المنجنيق من المدينة برجاً مما يلي حريث بن بحدل، فقال زفر: وكان خالد بن يزيد بن معاوية مجداً في قتلاهم، فقال رجل من أصحاب زفر من بني كلاب: لأقولن لخالد كلاماً لا يعود إلى ما يصنع. فلما كان الغد خرج خالد للمحاربة، فقال له الكلابي: فاستحيا وعاد ولم يرجع يقاتلهم.وقالت كلب لعبد الملك: إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسية الذين معك فلا تخلطهم معنا.ففعل، فكتبت القيسية على نبلها: إنه ليس يقاتلكم غداً مضري، ورموا النبل إلى قرقيسيا، فلما أصبح زفر دعا ابنه الهذيل، وبه كان يكنى، وقيل: كان يكنى أبا الكوثر، فقال: اخرج إليهم فشد عليهم شدةً لا ترجع حتى تضرب فسطاط عبد الملك، والله لئن رجعت دون أن تطأ أطناب فسطاطه لأقتلنك. فجمع الهذيل خيله وحمل عليهم، فصبروا قليلاً ثم انكشفوا، وتبعهم الهذيل بخيله حتى وطئوا أطناب الفسطاط وقطعوا بعضها، ثم رجعوا، فقبل زفر رأس الهذيل وقال: لا يزال عبد الملك يحبك بعدها أبداً. فقال الهذيل: والله لو شئت أن أدخل الفسطاط لفعلت. فقال زفر: ولما ثم برج قرقيسيا قال لعبد الملك بعض أهله: لو قاتلتهم بقضاعة لملكتهم. ففعل وقاتلهم، فلما كان عند المساء انكشفت قضاعة وكثر القتل فيهم، وأقبل روح بن زنباع الجذامي إلى برج منها فسأل أهله وقال: نشدتكم الله كم قتلنا منكم؟ قالوا: والله لم يقتل منا أحد ولم يجرح إلا رجل واحد ولا بأس عليه، ثم قالوا: نشدناك الله كم قتل منكم؟ قال: عدة فرسان وجرحتم ما لا يحصى، فلعن الله ابن بحدل! ورجع روح إلى عبد الملك وقال: إن ابن بحدل يمينك الباطل، فأعرض عن هذا الرجل.وكان رجل من كلب يقال له الذيال يخرج فيسب زفر فيكثر، فقال زفر للهذيل ابنه أو لبعض أصحابه: أما تكفيني هذا؟ قال: أنا أجيئك به. فدخل عسكر عبد الملك ليلاً فجعل ينادي: من يعرف بغلاً من صفته كذا وكذا؟ حتى انتهى إلى خباء الرجل وقد عرفه. فقال الرجل: رد الله عليك ضالتك. فقال: يا عبد الله إني قد عييت فلو أذنت لي فاسترحت قليلاً. قال: ادخل، فدخل والرجل وحده في خبائه، فرمى بنفسه ونام صاحب الخباء، فقام إليه فأيقظه وقال: والله لئن تكلمت لأقتلنك. قال: قتلت أو سلمت فماذا ينفعك قتلي؟ قال: لئن سكت وجئت معي إلى زفر فلك عهد الله وميثاقه أن أردك إلى عسكرك بعد أن يصلك زفر والرجل معه، فاعلمه أنه قد آمنه، فوهب له زفر دنانير وحمله على رحالة النساء وألبسه ثيابهن وبعث معه رجلاً حتى دنوا من عسكر عبد الملك، فنادوا: هذه جارية قد بعث بها زفر إلى عبد الملك. وانصرفوا، فلما نظر إليه أهل العسكر عرفوه وأخبروا عبد الملك الخبر، فضحك وقال: لا يبعد الله رجلاً نصر، والله إن قتلهم لذل وإن تركهم لحسرة. وكف الرجل فلم يعد يسب زفر، وقيل: أنه هرب من العسكر.ثم إن عبد الملك أمر أخاه محمداً أن يعرض على زفر وابنه الهذيل الأمان على أنفسهما ومن معهما وما لهم وأن يعطيا ما أحبا. ففعل محمد ذلك، فأجاب الذيل وكلم أباه وقال له: لو صالحت هذا الرجل فقد أطاعه الناس وهو خير لك من ابن الزبير. فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنةً وأن ينزل حيث شاء ولا يعين عبد الملك على قتال ابن الزبير. فبينا الرسل تختلف بينهما إذ جاءه رجل من كلب فقال: قد هدم من المدينة أربعة أبراج. فقال عبد الملك: لا أصالحهم.وزحف إليهم فهزموا أصحابه حتى أدخلوهم عسكرهم. فقال: أعطوهم ما أرادوا. فقال زفر: لو كان قبل هذا لكان أحسن. واستقر الصلح على أمان الجميع، ووضع الدماء والموال، وان لا يبايع عبد لملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة له في عنقه، وأن يعطى مالاً يقسمه في أصحابه.وخاف زفر أن يغدر به عبد الملك كما غدر بعمرو بن سعيد، فلم ينزل إليه، فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم، أماناً له، فنزل إيه، فلما دخل عليه أجلسه معه على سريره، فقال ابن عضاة الأشعري: أنا كنت أحق بهذا المجلس منه. فقال زفر: كذبت هناك، إني عاديت فضررت وواليت فنفعت.ولما رأى عبد الملك قلة من مع زفر قال: لو علمت أنه في هذه القلة لحاصرته أبداً حتى ينزل على حكمي. فبلغ قوله زفر فقال: إن شئت رجعنا ورجعت. فقال: بل نفي لك يا أبا الهذيل.وقال له عبد الملك يوماً: بلغني أنك من كندة. فقال: وما خير من لا يبغي حسداً ولا يدعي رغبة! وتزوج مسلمة بن عبد الملك الرباب بنت زفر، فكان يؤذن لأخويها الهذيل والكوثر في أول الناس.وأمر زفر ابنه الهذيل أن يسير مع عبد الملك إلى قتال مصعب وقال له: أنت لا عهد عليك.فسار معه، فلما قارب مصعباً هرب إليه وقاتل مع ابن الأشتر، فلما قتل ابن الأشتر اختفى الهذيل بالكوفة حتى استؤمن له من عبد الملك فآمنه، كما تقدم.
فكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بذلك، فكتب إليه عبد الملك: قد عرفت ذلك وسألت رسولك عن المهلب فأخبرني أنه عامل على الهواز، فقيح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابياً من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، المقاسي للحرب، ابنها وابن أبنائها، أرسل إلى المهلب يستقبلهم، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة ليمك بجيش، فسر معهم لا ولا تعمل في عدوك برأي حتى يحضره المهلب، والسلام.وكتب عبد الملك إلى بشر أخيه بالكوفة يأمره بإنفاذ خمسة آلاف مع رجل يرضاه لقتال الخوارج، فإذا قضوا غزوتهم ساروا إلى الري فقاتلوا عدوهم وكانوا مسلحةً فبعث بشر خمسة آلاف، وعليهم عبد الرحمن بن محمد الأشعث، فكتب له عهداً على الري عند الفراغ من قتاله.وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، وقدمها عبد الرحمن بن محمد فيأهل الكوفة، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من الأهواز، فقال المهلب لخالد: إني أرى هاهنا سفناً كثيرة فضمها إليك فإنهم سيحرقونها، فلم يمض إلا ساعة حتى أرسلوا إليها فأحرقوها.وجعل خالد المهلب على ميمنته، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق عليه، فقال: ما يمنعك من الخندق؟ فقال: هم أهون علي من ضرطة الجمل. قال: لا يهنوا عليك فإنهم سباع العرب.ولم يبرح المهلب حتى خندق عبد الرحمن عليه، فأقاموا نحواً من عشرين ليلة، ثم زحف خالد إليهم بالناس، فرأوا أمراً هالهم من كثرة الناس، فكثرت عليهم الخيل وزحفت إليهم، فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون طاقةً بقتل جماعة الناس. فأرسل خالد داود بن قحذم في آثارهم، وانصرف خالد إلى البصرة، وسار عبد الرحمن إلى الري، وأقام المهلب بالأهواز، وكتب خالد إلى عبد الملك بذلك.فلما وصل كتابه إلى عبد الملك كتب إلى أخيه بشر يأمره أن يبعث أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة مع رجل بصير بالحرب إلى فارس في طلب الأزارقة، ويأمر صاحبه بموافقة داود بن قحذم إن اجتمعا. فبعث بشر عتاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، فساروا حتى لحقوا داود فاجتمعوا ثم ابتعوا الخوارج حتى علكت خيول عامتهم وأصابهم الجوع والجهد، ورجع عامة الجيشين مشاة إلى الأهواز.وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الخارجي، وهو من بني قيس بن ثعلبة، فغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحنفي، فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك، فبعث أخاه أمية بن عبد الله في جند كثيف إلى أبي فديك، فهزمه أبو فديك وأخذ جاريةً له فاتخذها لنفسه، فكتب خالد إلى عبد الملك بذلك.
لتجزين بالذي أتيكا يعنون: عصيت وأتيت.وقدم عليه قوم من الأعراب فقالوا: قدمنا للقتال معك، فنظر فإذا مع كل امرئ منهم سيف كأنه شفرة وقد خرج من غمده، فقال: يا معشر الأعراب لا قربكم الله! فوالله إن سلاحكم لرث، وإن حديثكم لغث؛ وإنكم لقتال في الجدب، أعداء في لخصب. فتفرقوا ولم يزل القتال بينهم دائماً، فغلت الأسعار عند ابن الزبير وأصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح فرسه وقسم لحمها في أصحابه، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، والمد الذرة بعشرين درهماً، وإن بيوت ابن الزبير لمملوءة قمحاً وشعيراً وذرة وتمراً، وكان أهل الشام ينتظرون فناء ما عنده، وكان يحفظ ذلك ولا ينفق منه إلا ما يمسك الرمق، ويقول: أنفس أصحابي قوية ما لم يفن.فلما كان قبيل مقتله تفرق الناس عنه وخرجوا إلى الحجاج بالأمان، خرج من عنده نحو عشرة آلاف، وكان ممن فارقه ابناه حمزة وخبيب، وأخذا لأنفسهما أماناً، فقال عبد الله لابنه الزبير: خذ لنفسك أماناً كما فعل أخواك، فو الله إني لأحب بقاءكم. فقال ما كنت لأرغب بنفسي عنك. فصبر معه فقتل.ولما تفرق أصحابه عنه خطب الحجاج الناس وقال: قد ترون قلة من مع ابن الزبير وماهم عليه من الجهد والضيق. ففرحوا واستبشروا فتقدموا فملأوا ما بين الحجون إلى الأبواء. فدخل على أمه فقال: يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك في الدنيا! القتل أحسن! فقال: يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني. قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ إذا ذبحت، فامض على بصيرتك واستعن بالله.فقبل رأسها وقال: هذا رأيي والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملاً بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكني أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني! فقالت أمه: غني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً، إن تقدمتني احتسبتك، وإن ظفرت سررت بظفرك، أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. فقال: جزاك الله خيراً، فلا تدعي الدعاء لي. قالت: لا أدعه لك أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذاك القيام في الليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة وبره بأبيه وبي! اللهم قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين! فتناول يديها لقبلهما فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعاً لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا. قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودعك. فدنا منها فعانقها وقبلها، فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: مالبسته إلا لأشد منك. قالت: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم درج كمية وشد أسفل قميصه وجبة خز تحت أثناء السراويل وادخل أسفلها تحت المنطقة وأمه تقول له: البس ثيابك مشمرة. فخرج وهو يقول: إذ بعضهم يعرف ثم ينكر فسمعته فقالت: تصبر إن شاء الله، أبواك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب. فحمل على أهل الشام حملةً منكرةً فقتل منهم ثم انكشف هو وأصحابه، وقال له بعض أصحابه: لو لحقت بموضع كذا. قال: بئس الشيخ أنا إذاً في الإسلام لئن أوقعت قوماً فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم. ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب، وكانوا يصيحون به: يا ابن ذات النطاقين، فيقول: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وجعل أهل الشام على أبواب المسجد رجلاً من أهل كل بلد، لكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني تميم، وكان الحجاج وطارق من ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية ومرة في هذه الناحية، فكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال يعدو في أثر القوم حتى يخرجهم، ثم يصيح: أبا صفوان! ويل أمه فتحاً لو كان له رجال أو كان قرني واحداً كفيته! فيقول أبو صفوان عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف: إي والله وألف.فلما رأى الحجاج أن الناس لا يقدمون على ابن الزبير غضب وترجل وأقبل يسوق الناس ويصمد بهم صمد صاحب علم ابن الزبير وهو بين يديه. فتقدم ابن الزبير على صاحب علمه وضاربهم وانكشفوا، وعرج وصلى ركعتين عند المقام، فحملوا على صاحب علمه فقتلوه عند باب بني شيبة وصار العلم بأيدي أصحاب الحجاج. فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم فضرب رجلاً من أهل الشام وقال: خذها وأنا ابن الحواري! وضرب آخر، وكان حبشياً، فقطع يده وقال: اصبر أبا حمدة، اصبر ابن حام. وقاتل معه عبد الله بن مطيع وهو يقول: واليوم أجزي فرةً بكره وقاتل حتى قتل، وقيل: إنه أصابته جراح فمات منها بعد أيام.وقال ابن الزبير لأصحابه وأهله يوم قتل بعد صلاة الصبح: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم، وعليهم لمغافر. ففعلوا. فقال: يا آل الزبير لو طبتم بي نفساً عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله، فلا يرعكم وقع السيوف، فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها، صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، غضوا أبصاركم من البارقة وليشغل كل امرئٍ قرنه ولا تسألوا عني، فمن كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول، احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بآجرة، رماه رجل من السكون، فأصابته في وجهه فأرعش لها ودمي وجهه، فلما وجد الدم على وجهه قال: وقاتلهم قتالاً شديداً، فتعاوروا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج فسجد ووفد السكوني والمرادي إلى عبد الملك بالخبر، فأعطى كل واحد منهما خمسمائة دينار.وسار الحجاج طارق وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجاج: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، غنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا بل يفضل علينا. فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقاً.ولما قتل ابن الزبير كبر أهل الشام فرحاً بقتله، فقال ابن عمر: انظروا إلى هؤلاء ولقد كبر المسلمون فرحاً بولادته وهؤلاء يكبرون فرحا بقتله.وبعث الحجاج برأسه ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان وأخذ جثته فصلبها على الثنية اليمنى بالحجون. فأرسلت إليه فكتب إليه يلومه ويقول: ألا خليت بينه وبين أمه! فأذن لها الحجاج فدفنته بالحجون، فمر به عبد الله بن عمر فقال: السلام عليك يا أبا خبيب! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ولقد كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله إن قوماً أنت شرهم لنعم القوم.وكان ابن الزبير قبل قتله بقي أياماً يستعمل الصبر والمسك لئلا ينتن، فلما صلب ظهرت منه رائحة المسك، فقيل: إن الحجاج صلب معه كلباً ميتاً فغلب على ريح المسك، وقيل: بل صلب معه سنوراً.ولما قتل عبد الله ركب أخوه عروة ناقةً لم ير مثلها فسار إلى عبد الملك فقدم الشام قبل وصول رسل الحجاج بقتل عبد الله، فأتى باب عبد الملك فاستأذن عليه فأذن له، فلما دخل سلم عليه بالخلافة، فرد عليه عبد الملك ورحب به وعانقه وأجلسه على السرير، فقال عروة: ثم تحدثا حتى جرى ذكر عبد الله، فقال عروة: إنه كان، فقال عبد الملك: وما فعل؟ قال: قتل، فخر ساجداً، فقال عروة: إن الحجاج صلبه فهب جثته لأمه. قال: نعم، وكتب إلى الحجاج يعظم صلبه. وكان الحجاج لما فقد عروة كتب إلى عبد الملك يقول له: عن عروة كان مع أخيه، فلما قتل عبد الله أخذ مالاً من مال الله فهرب. فكتب إليه عبد الملك: إنه لم يهرب ولكنه أتاني مبايعاً وقد آمنته وحللته مما كان، وهو قادم عليك فإياك وعروة. وعاد عروة إلى مكة وكانت غبيته عنها ثلاثين يوماً.فأنزل الحجاج جثة عبد الله عن الخشبة بعث به إلى أمه، فغسلته، فلما أصابه الماء تقطع، فغسلته عضواً عضواً فاستمسك، وصلى عليه عروة، فدفنته.وقيل: إن عروة لما كان غائباً عند عبد الملك كتب إليه الحجاج وعاوده في إنفاذ عروة إليه، فهم عبد الملك بإنفاذه، فقال عروة: ليس الذليل من قتلتموه ولكن الذليل من ملكتمخوه، وليس بملوم من صبر فمات، ولكن الملوم من فر من الموت. فسمع مثل هذا الكلام فقال عبد الملك: يا أباعبد الله لن تسمع منا شيئاً تكرهه.وإن عبد الله لم يصل عليه أحد، منع الحجاج من الصلاة عليه، وقال: غنما أمر أمير المؤمنين بدفنه، وقيل: صلى عليه غير عروة، والذي ذكره مسلم في صحيحه: إن عبد الله بن الزير ألقي في مقابر اليهود، وعاشت أمه بعده قليلاً وماتت، وكانت قد أضرت، وهي أم عروة أيضاً.فلما فرغ الحجاج من أمر ابن الزبير دخل مكة فبايعه أهلها لعبد الملك ابن مروان، وأمر بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وسار إلى المدينة، وكان عبد الملك قد استعمله على مكة والمدينة، فلما قدم المدينة أقام بها شهراً أو شهرين فأساء إلى أهلها واستخف بهم وقال: أنتم قتلة أمير المؤمنين عثمان، وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافاً بهم كما يفعل بأهل الذمة، منهم جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وسهل بن سعد، ثم عاد إلى مكة، فقال حين خرج منها: الحمد الله الذي أخرجني من أم نتن، أهلها أخبث بلد وأغشه لأمير المؤمنين وأحسدهم له على نعمة الله، والله لو ما كنت تأتيني كتب أمير المؤمنين فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار أعواداً يهودون بها ورمة قد بليت، يغلون منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبلغ جابر بن عبد الله قوله فقال: إن وراءه ما يسوءه، قد قال فرعون ما قال ثم أخذه الله بعد أن أنظره.وقيل: إن ولاية الحجاج المدينة وما فعله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان سنة أربع وسبعين في صفر.خبيب بن عبد الله بن الزير بضم الخاء المعجمة، وببائين موحدتين بينهما ياء مثناه من تحت، وكان عبد الله يكنى به ويأبي بكر أيضاً.
|